حين بدأت إثيوبيا في ملء سد النهضة عام ٢٠٢٠، وُضعت مصر أمام معادلة وجودية صعبة.
فقد كان الخوف الأكبر أن تتزامن سنوات الملء مع فيضانات ضعيفة، مما يعني أن نصيب مصر التاريخي من مياه النيل سيتعرض لانخفاض خطير. أمام هذا الاحتمال، تحركت الدولة سريعًا لتقليل الاستهلاك، فأُعيد تنظيم الزراعات، ومُنعت المحاصيل الشرهة للمياه، وجرت حملة واسعة لتبطين الترع وتطهير المجاري المائية.
كانت الفكرة الأساسية هي:
التحوّط لكل السيناريوهات الممكنة.
لكن الله جل جلاله أراد الخير لمصر .
ففي العام التالي جاء الفيضان عاليًا،وامتلأت بحيرة السد العالي حتى بلغت منسوبًها (١٧٧.٨٨م)
يفرض تشغيل مفيض توشكى.
وهنا واجه صانع القرار مأزقًا كلاسيكيًا:
هل يصرف المياه الزائدة فتضيع بلا عائد
إذا انخفضت الفيضانات في المستقبل؟
أم يحتفظ بها، فيغامر بفيضانات مدمرة
في الأعوام اللاحقة؟
كان الحل الذي اقترحه الخبراء من كليات الهندسة حلا مبتكرًا وبالغ الأهمية: توسيع مفيض توشكى بإنشاء تفريعات جديدة تنطلق من منسوب ١٥٠ مترًا، بما يسمح بمرونة أكبر في تخزين المياه واستخدامها،
ويضمن في الوقت نفسه شحن الخزان الجوفي في الصحراء الغربية.
وبهذا يرتفع المخزون الممكن من ٢٠ مليار م³ إلى ما يقارب ٨٠ مليار م³، مع إتاحة زراعة أكثر من ٢٣٠ ألف فدان إضافي.
لقد كان المشروع تحديًا هندسيًا من الطراز الأول: تفريعات بطول ٨٠ كم، أعمال حفر في صخور الجرانيت لمسافة ٩ كم، وإنجاز كل ذلك في أقل من عام. وأصبح نموذج نادر لكيف يمكن أن تتكامل الرؤية السياسية الواضحة مع العلم الأكاديمي والانضباط العسكري
في التنفيذ.
وجاء فيضان ٢٠٢٥ ليؤكد جدوى هذا الخيار.
إذ فتحت إثيوبيا بوابات سدها، فغرقت مساحات من السودان، بينما كانت مصر مستعدة؛ فُتحت القنوات الجديدة، واستوعبت الصحراء كميات هائلة من المياه،
دون أن تهدر نقطة واحدة.
وكانت النتيجة المباشرة زراعة مساحات واسعة بالقمح، وتأمين احتياجات استراتيجية من المياه.
إن ما تحقق في مشروع توشكى
يعبّر عن فلسفة أوسع: إدارة الأزمات
عبر التحوّط الذكي. لقد حولت مصر موقفًا خطيرًا إلى فرصة، فأضافت إلى أمنها المائي رصيدًا جديدًا، وأثبتت أن مواجهة التحديات الكبرى لا تكون بالارتجال ولا بالشعارات،
بل بالعلم والقرار السياسي المدعوم بإرادة التنفيذ.
إن قضية المياه في مصر ليست ملفًا تقنيًا فحسب، بل هي مسألة أمن قومي واستقرار اجتماعي.
• مشروع توشكى الأخير يقدم مثالًا عمليًا
أن التخطيط بعيد المدى مهما كانت كلفته،
هو الاستثمار الحقيقي في أمن الوطن.