كتب احمد عسله
في اللحظة التي يقف فيها العالم مبهورا أمام بوابات المتحف المصري الكبير في مشهد يختلط فيه الحاضر بالمجد ويتنفس المصريون عبق التاريخ تطلّ على المشهد الثقافي والعلمي مفاجأة جديدة من أرض الشرقية من عقلٍ مصريٍ نابضٍ بالإبداع اسمه الدكتور محمد عبدالحميد ناس رئيس الوحدة المحلية بالزهراء بمركز الزقازيق ونائب رئيس حي ثان الزقازيق سابقا والمدير الحالي بمديرية الطب البيطري.
هذه المرة لا يفكّ الدكتور ناس رموز هرمٍ أو لغزا هندسيا بل يقدّم للبشرية كلها مفتاحا جديدا من مفاتيح التواصل الإنساني عبر كتابه الفريد من نوعه بعنوان “لغات الفئات الخاصة الفرعونية” الصادر حديثا والذي يُعدّ امتدادا طبيعيا لرحلته السابقة في “فك رموز هرم خوفو” التي أدهشت القرّاء والعلماء قبل أعوام.
من أسرار الأهرامات إلى أسرار الإنسان
يؤكد الدكتور محمد عبدالحميد ناس أن الحضارة المصرية القديمة لم تكن مجرد حجارة صامتة أو نقوش مبهرة بل كانت حضارة إنسانٍ يفكر ويتواصل ويحتضن الآخر حتى من ذوي الاحتياجات الخاصة.
فمن قلب النقوش الهيروغليفية ومن داخل جدران المعابد خرجت إشارات ورموز يمكن وصفها اليوم بأنها أول لغات الإشارة والبروز في التاريخ وضعها المصري القديم ليجعل من لغته أداة شاملة لا تُقصي أحدا بل تفتح الأبواب لكل من لا يسمع أو لا يرى.
ميلاد فكرة الكتاب
يقول الدكتور ناس في مقدمة كتابه الفكرة وُلدت من دهشة… دهشة أمام قدرة الأجداد على جعل اللغة جسورا وليست حواجز على تحويل النقش إلى نَفَس والرمز إلى حياة. ومن هنا كان التفكير في استحداث لغات جديدة مستوحاة من الفكر الهيروغليفي لفئات الصم والمكفوفين محليا وعالميًا.
يضيف أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتفاهم بل مرآة للوجود الإنساني تعكس الفكر والثقافة والمشاعر وأن غيابها أو ضعفها لدى أي فئة يُنتج عزلة مؤلمة لذلك كان هدفه أن يمنح ذوي الهمم لغات جديدة تُخرجهم من دائرة الصمت والظلام إلى رحابة المشاركة والدمج المجتمعي.
“الفرعونية الجديدة” جسر حضاري نحو المستقبل
يستعرض الكتاب — في فصوله الخمسة — رحلة فكرية مدهشة تمزج بين التاريخ والعلم النفسي والاجتماعي والتربوي حيث يكشف المؤلف أن المصري القديم وضع اللبنات الأولى لما نعرفه اليوم باسم “لغة الإشارة” و”لغة برايل” حينما استخدم النقوش البارزة والغائرة للتعبير عن الحركة والحالة والموقف.
يؤكد الدكتور ناس أن هذه الرموز لم تكن مجرد فنون جدارية بل كانت منظومة تواصل متكاملة تسمح بنقل المعاني والمشاعر من خلال الصور والإيماءات والملامح ومن هنا استلهم فكرته العلمية بتطوير لغتين جديدتين — “لغة الإشارة الفرعونية للصم” و”لغة البروز الفرعونية للمكفوفين” — في محاولة لتوحيد التعبير بين فئات المجتمع محليًا ودوليًا.
مصر القديمة أول من دمج فئاتها الخاصة
يؤكد الكتاب — بالأدلة والمقارنات التاريخية — أن القدماء المصريين لم يتركوا أحدا خارج مظلة التعليم والمعرفة فقد كانت مدارسهم ومعابدهم تحتضن الجميع السامع والأصم المبصر والكفيف القوي والضعيف.
يشير الدكتور ناس إلى أن “الكتابة الهيروغليفية” كانت ذات طبيعة حسية متكاملة تجمع بين الصوت والصورة والملمس وهو ما جعلها قادرة على مخاطبة جميع الحواس وبذلك سبقت الحضارة المصرية كل نظريات التعليم الحديث الشامل بآلاف السنين.
لغة الحياة لا لغة العجز
يذهب الدكتور ناس أبعد من مجرد دراسة لغوية ليربط بين علم النفس الإنساني وفلسفة الحضارة الفرعونية مؤكدا أن “الفراعنة لم يؤمنوا بالعجز بل بالحياة”.
لقد نظروا إلى الفئات الخاصة كجزء أصيل من المجتمع له دوره وقدراته ومكانته ومن هذا المنطلق يقدم الكتاب طرحا تربويا جديدا يهدف إلى تطوير المناهج التعليمية لذوي الهمم عبر أنظمة لغوية مبتكرة مستوحاة من النقوش الهيروغليفية.
بيانات عالمية وأرقام تدق ناقوس الإنسانية
يستند الدكتور ناس في تحليله إلى إحصاءات دقيقة توضح حجم التحدي العالمي ففي العالم نحو ٧٠ مليون أصم وأكثر من ٣٥ مليون كفيف في الوطن العربي وحده بينما تعاني ١.٨ مليون حالة في مصر من فقدان البصر وفقا لتقارير منظمة الصحة العالمية.
يؤكد أن هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات بل صرخة ضمير عالمي تستدعي حلولا جديدة تتجاوز حدود اللغة التقليدية إلى لغات أكثر عدلًا وإنسانية.
الكتاب بين البحث العلمي والرسالة الإنسانية
يمزج “لغات الفئات الخاصة الفرعونية” بين الدقة الأكاديمية والرؤية الفلسفية والرسالة الإنسانية فهو ليس مجرد بحث في اللغات بل دعوة لاستعادة روح الحضارة المصرية في احتضان الإنسان أيا كان حاله ومن خلال ربط الماضي بالحاضر يثبت المؤلف أن الفراعنة سبقوا عصرهم في علوم التواصل والإدماج وأن إبداعهم لم يتوقف عند التحنيط والبناء بل امتد إلى بناء الإنسان نفسه.
تزامن مدهش مع افتتاح المتحف المصري الكبير
اللافت أن صدور هذا الكتاب تزامن مع الحدث الذي ينتظره العالم — افتتاح المتحف المصري الكبير — وكأن التاريخ يأبى إلا أن يعيد نفسه وأن تخرج من مصر الحديثة رسالة جديدة تقول للعالم لسنا فقط من حفظنا التراث نحن من نُعيد تعريف الإنسان.
فبين أروقة المتحف الذي يعرض ملوك مصر وبين صفحات كتاب ناس الذي يعيد الحياة لعلومهم تمتد خيوط الدهشة لتجعل من الماضي مصدرا للفكر ومن التراث منبعا للتجديد.
تكريم للأجداد وخدمة للأحفاد
يقول الدكتور ناس في أحد فصول الكتاب كل حرفٍ أنقشه في هذا العمل هو تحية لأجدادي الذين علمونا أن المعرفة بلا إنسانية مجرد رماد.
يضيف أن ما دفعه للبحث هو “الإيمان بأن مصر ما زالت قادرة على إبهار العالم لا بآثارها فقط بل بعقول أبنائها القادرين على ترجمة التاريخ إلى علمٍ وتطبيقٍ وحياة.
علماء ومفكرون: الكتاب يعيد الاعتبار للحضارة المصرية
حظي الكتاب فور صدوره بتقدير واسع من عدد من الأكاديميين والباحثين في مجالات التربية الخاصة واللغات القديمة مؤكدين أنه يمثل نقلة فكرية جديدة تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
ويرون أن الدكتور محمد عبدالحميد ناس قدّم نموذجا نادرا للباحث المصري الذي يحول الإعجاز التاريخي إلى فكرة علمية قابلة للتطبيق، في وقت تتجه فيه الدولة بكل مؤسساتها نحو تمكين ذوي الهمم ودمجهم الكامل في المجتمع.
في ختام المشهد
يبقى أن نقول إن كتاب “لغات الفئات الخاصة الفرعونية” ليس مجرد إصدار ثقافي جديد بل صرخة حضارية من أرض الشرقية إلى العالم تذكّرنا بأن حضارة الفراعنة لم تكن ماضيا يُروى بل مستقبلا يُستعاد.
ومن المتحف المصري الكبير الذي يجمع آثار الأجداد إلى فكر الدكتور ناس الذي يستلهم علومهم تمتد رسالة مصر الأبدية
من هنا بدأ التاريخ… ومن هنا يتجدد الإنسان…









