*** في لحظة فارقة يتقاطع فيها القلق الإنساني مع البحث الدؤوب عن ملاذ روحي آمن بزغ في سماء الإعلام المصري مشهد غير مسبوق مشهد أعاد للقرآن بهاءه الأول وللروح نفسها العميق.
ذلك المشهد هو «دولة التلاوة» البرنامج الذي تحول في زمن يسير من مجرد إنتاج إعلامي إلى ظاهرة قومية تجاوزت حدود التلقي العابر لتستقر في قلب الوجدان الجمعي للمصريين.
لم يكن الأمر مفاجئا بقدر ما كان منتظرا فالأمة التي خرج منها أصوات بحجم مصطفى إسماعيل والمنشاوي، وعبدالباسط وورّثت الدنيا مدرسة صوتية فريدة لا تُجارى كان لابد أن يعود فيها هذا النبض وأن تستعيد على الهواء مباشرة ما افتقدته لعقود جمال التلاوة وقداستها وروح المقام وعمقه وجلال الصوت حين يتوضأ بالمعنى.
عودة السكينة إلى بيوت المصريين
غريب هذا الالتفاف الجماهيري الذي خالف كل توقعات السوق الإعلامي فالبرنامج دون ضجيج ترويجي أو بهرجة استعراضية دخل البيوت دخول الضيف الكريم وسكن الأرواح بوقار وشيد لنفسه مكانة تشبه مكانة “خواطر الشعراوي” في أوجها.
الناس لم تكن تبحث عن الوعظ بقدر ما كانت تبحث عن السكينة ولم تكن في حاجة إلى منهج متشدد أو خطاب يوزع الحرام والحلال بسطحية كانوا فقط في حاجة إلى صوت يوقظ في القلب ما نام ويعيد الإنسان إلى نفسه وإلى ربه دون وسيط ولا وجل.
جيل جديد يحمل الأمانة ببراءة الموهبة وصدق الفطرة
في «دولة التلاوة» تفتحت أمام أعين المصريين براعم موهبة لم تشبها تصنعات الزمن ولا مراوغات الاحتراف أطفال وشباب يقرؤون القرآن كمن يفتتح نافذة على الجنة
أصوات ندية صافية تتجاوز قدراتهم العمرية وتحمل في ثناياها إرث مدرسة مصرية عريقة لم يبهت ضوؤها رغم محاولات الطمس والتشويه.
لقد رأى الناس عبر الشاشات أن القرآن ما زال قادرا على أن يخلق جيلا يفيض نورا وأن مصر مهما تبدلت التيارات لا تزال أُمّ المقامات وسيدة فنون التلاوة…
انحسار خطاب الصخب وتراجع هيمنة التشدد
ليس سرا أن مشهد الخطاب الديني في العقدين الأخيرين شهد فوضى غير مسبوقة.
أصوات مرتفعة بلا علم وفتاوى بلا مسؤولية ومذاهب وافدة حاولت أن تنتزع من المصريين جمال تدينهم الفطري وأن تُحِلّ محلّه حالة من الجفاف الروحي والصرامة المفتعلة.
غير أن «دولة التلاوة» نجح دون صدام أو مناظرة في أن يعيد ترتيب خريطة التأثير وأن يُزاحم ذلك الخطاب الجاف بوسيلة أرقى وأعمق الا وهو جمال القرآن نفسه.
لقد وجد الناس في البرنامج ما لم يجدوه في غيره وجدوا الدين كما أحبوه وكما تربوا عليه دينا متسامحا هادئا مشرقا لا يتورط في التكفير ولا يلهث وراء معارك الافتراض ولا يبتز مشاعر الناس بشعار أو صيحة.
دينًا تنشده الروح قبل أن تشرحه الكتب.
القرآن يعود لقيادة الوجدان
ما فعله البرنامج ليس إعادة إحياء لمدرسة التلاوة فحسب بل إعادة ترتيب لأولويات الوعي الديني في مصر.
لقد أعاد الاعتبار لفكرة أن القرآن هو الأصل وأن جماله هو المدخل الأكبر لصناعة الإيمان وأن السماع الحق هو طريق لا يقل شأنا عن القراءة والتدبر.
والأهم أن البرنامج أقام حائط صد رفيع المستوى ضد كل محاولات “تجفيف” الذوق الديني وتحويله إلى صخب لا روح فيه.
لقد انتصر القرآن بجماله دون سلاح سوى الجلال.
بداية نهضة روحية وإعلامية جديدة
نجاح «دولة التلاوة» يستدعي أن يكون بداية لا نهاية وبوابة لمشروع أكبر يعيد إلى المشهد الإعلامي المصري دوره التاريخي في ترميم الوجدان وصناعة الذائقة وفتح المجال أمام جيل جديد يواصل رحلة المدرسة المصرية نحو مزيد من الاتساع والعمق والتأثير.
والحق أن ما رأيناه هو إشعار ببدء موسم روحي تتسع فيه دوائر السكينة وتعود فيه البركة إلى مساحات أهملها الإعلام طويلا ليطل منها القرآن هذه المرة في ثوب يليق بمكانته ومكانتنا.
«دولة التلاوة» ليس برنامجا بل نهضة روحية مكتملة الأركان أعادت للقرآن مكانته في قلب الناس وأعادت لمصر صوتها العريق وأعادت للوعي الديني هيبته من غير صراخ ولا معارك.
هي لحظة تستحق الاحتفاء وتستحق أن تُبنى عليها خطوات أكبر وتستحق أن تُسجل كواحدة من أرقى اللحظات التي عاد فيها المصريون إلى القرآن سماعا وتدبرا وحبا…







