في مشهد عبقري يتجاوز حدود البروتوكول السياسي اصطحب الرئيس عبد الفتاح السيسي نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في جولة فريدة بين أزقة خان الخليلي العتيقة حيث يمتزج عبق التاريخ بروح القاهرة الفاطمية، ويعلو صوت الحضارة المصرية على كل ضجيج. لم تكن مجرد نزهة رئاسية في أحد أحياء القاهرة، بل كانت رسالة قوية مكتملة الأركان للعالم أجمع، مفادها أن مصر لا تُقدم تاريخها فحسب، بل تعيشه وتدرّسه وتحميه، وأنها بلد الأمن والأمان في زمن يموج بالتوترات والاضطرابات. الجولة التي بدأت من قلب المتحف المصري الكبير، مرورًا بالحسين وخان الخليلي، ووصولًا إلى مطعم نجيب محفوظ، لم تكن مصادفة ولا تفصيلة هامشية، بل خطة محكمة تم وضع كل نقطة فيها على الشطرنج بدقة رجل دولة يعي أبعاد اللحظة. فعندما يتجوّل رئيس مصر برفقة رئيس فرنسا في أكثر مناطق القاهرة ازدحامًا، دون أن يُغلق محل، أو يُقطع طريق، فهذه ليست جولة بلاغية بل جولة سيادية ترسل عشرات الرسائل في وقت واحد.. رسالة أولى للداخل أن الدولة المصرية قادرة على تأمين أي بقعة على أرضها، وفي أضيق الشوارع وأكثرها حيوية، ورسالة للخارج أن هذه الدولة العريقة محصنة بالإرادة والشرعية والشعب. أما الرسائل الإقليمية والدولية فحدث ولا حرج: التقارب مع فرنسا في توقيت بالغ الحساسية وسط اشتعال الخلافات الأوروبية الأمريكية بشأن الرسوم الجمركية، والحرب الروسية الأوكرانية، يأتي ليعزز مكانة مصر كقوة إقليمية ذات قرار مستقل وتحالفات مرنة. زيارة ماكرون – حليف إسرائيل الأقرب داخل الاتحاد الأوروبي – إلى قلب القاهرة برعاية مصرية، وفي مشهد شعبي بامتياز، هي صفعة ناعمة لمشروع التهجير الأمريكي الذي يريد تحريك الحدود، وتطويع الشعوب، وإعادة رسم الخرائط بمعايير المصالح لا المبادئ. إن استقبال الرئيس الفرنسي بطائرات “رافال” فرنسية الصنع مصرية القيادة، ثم أخذه في جولة وسط الشعب المصري دون حاجز، في حي قاوم الحملة الفرنسية قبل قرنين، وصولًا إلى طاولة عشاء تضم أكلات مصرية أصيلة في مطعم يحمل اسم نجيب محفوظ – رمز الأدب العربي العالمي – هو مشهد مركب فيه من الذكاء السياسي، والبراعة الأمنية، والحنكة الدبلوماسية، ما يجعل منه حدثًا تاريخيًا بامتياز. الرئيس السيسي لم يكن يُفسّح ضيفه كما روج البعض، بل كان يكتب سطورًا جديدة في كتاب السياسة الإقليمية بلغة الثقافة والسياحة والهوية. هذا هو الفارق بين من يملك الدولة ومن يملك فقط المنصب. فحين يتحرك قائد حقيقي، تتحرك معه الدولة بكل مؤسساتها، وتسير السياسة في ركاب الوعي، وتتحول الصورة إلى خطاب سياسي متكامل أقوى من ألف بيان رسمي. في زمن التحولات الكبرى، لا تبقى في الذاكرة إلا تلك اللحظات التي تمزج الذكاء بالرمزية، والحكمة بالشجاعة، وهذا ما فعلته مصر حين فتحت قلبها الثقافي والتاريخي أمام كاميرات العالم، وقالت بكل ثقة: هنا القاهرة.. هنا مصر.
الخلاصة زيارة ماكرون لم تكن مجرد جولة سياحية ولا مجاملة دبلوماسية بل كانت مشهدًا متكامل الأركان كتبه رئيس يعرف جيدًا متى يستخدم التاريخ ومتى يُفعّل الجغرافيا ومتى يستثمر في اللحظة .. إنها مصر التي تعيش التاريخ وتُدرسه وتُعلّم العالم أن الكرامة والسلام لا يُفرضان بالقوة.. بل يُصنعان من داخل خان الخليلي.
