لم يكن أحد يتوقع أن برنامجا يُبنى على حسن الصوت وجمال المقام وروح المعنى يمكن أن يتحول في أسابيع قليلة إلى “دولة” حقيقية تتسع فيها المذاهب وتنكمش أمامها التيارات وتذوب عند أبوابها كل محاولات التشدد التي خنقت الوجدان الديني لسنوات. لكن «دولة التلاوة» فعلتها بل فعلتها بثبات المتصوفة وهدوء العارفين وصدق الأطفال الذين دخلوا الميدان بلا أقنعة ولا حسابات.
فجأة وجد الناس أنفسهم يعودون إلى القرآن وكأنهم يسمعونه لأول مرة يعودون إليه ليس عبر خُطب سياسية ولا صوتيات صاخبة ولا محاضرات تُتاجر بالدين بل عبر نَفَس صوفي عذب يسكب المعنى في القلب قبل الأذن ويوقظ في الروح شيئا كان نائما منذ زمن.
إنه البرنامج الذي صار حديث الناس كما كانت خواطر الشيخ الشعراوي حديث كل بيت.
إنه البرنامج الذي سحب البساط من تحت أقدام “وهابية مصر” التي اعتادت أن تحتكر المنابر وأن تصنع لنفسها سلطة على أذن الناس قبل عقولهم.
إنه البرنامج الذي فتح بابا جديدا لوعي ديني مختلف وعي بلا صراخ بلا فتاوى صدامية بلا تفسيق ولا تخويف بل جمال خالص يقود إلى الله.
أما لماذا نجحت “دولة التلاوة”؟
لأنها ببساطة أعادت الناس إلى ما فُطروا عليه وهو أن القرآن جمال قبل أن يكون جدلا وأن الصوت الحسن عبادة وأن الروح حين تتلقى كلام الله بلطف تتغير قبل أن تتعلم.
الناس كانوا عطشى عطشى بشدة وأنا أولهم
العطش لم يكن للنص فالنص حاضر بل للعذوبة للانسياب للصفاء الذي كان مفقودا تحت طبقات من الضجيج الديني المفتعل.
ميلاد جيل جديد يُذكر بما نُسي
في «دولة التلاوة» لم ير الناس مقرئين كبارا فقط بل رأوا أطفالا وشبابا تنزل من حناجرهم بركات لا تُشترى رأوا فطرة صافية وحضورا شفيفا وثقة مُدهشة وكأنهم يحملون تراثا عمره ألف عام.
هؤلاء لم يدخلوا ليتفلسفوا لم يدخلوا ليُحرجوا أحدا بفتواه.لم يدخلوا ليشتموا ويُكفروا ويُقسّموا الناس دخلوا فقط ليقرؤوا القرآن فإذا بالناس تعود إلى أصل الحكاية.
أثر يشبه الشعراوي ولكن بروح الزمن الجديد
المقارنة قد تبدو صعبة لكنها حاضرة في كل تعليقات الناس حقا والله رجعولنا إحساس خواطر الشيخ الشعراوي..
لماذا؟
لأن الشعراوي كان حالة ليس شيخا فقط كان نافذة هواء كان يفتح بابا بين السماء والأرض وكان يكلم الناس بصفاء لا يُقاوَم.
«دولة التلاوة» أعاد شيئا من هذا الباب.
ليس عبر التفسير بل عبر السماع عبر أثر القرآن حين يُتلى كما يجب أن يُتلى.
سقوط هيمنة الخطاب الوهابي
منذ سنوات طويلة احتلت الأصوات الوهابية المشهد أصوات تُشدّد تُخيف تُكفّر تُعقّد وتربط الناس بسلاسل ثقيلة من الحلال والحرام بدل أن تربطهم بالله.
هذا التيار كان يعيش على احتكار الوجدان.
على فكرة أن الدين صخب لا جمال وحصار لا رحمة.
فجأة يظهر برنامج واحد كفيل بهدم كل هذه الفكرة لا بمناظرات ولا معارك ولا ردود بل بتذوّق بسيط كأن القرآن جاء ليقول اسحبوا ضجيجكم من فضاء الناس فقد عدتُ أنا..
حين تتطهر الآذان يتطهر القلب
الناس لم تكن تبحث عن الفتوى كانت تبحث عن شيء أعمق كانت تبحث عما يُسكِت خوفها ويغسل تعبها ويعيد ترتيب روحها.
«دولة التلاوة» جاء ليقول بان الإيمان يُشرَب يُتَذوَّق يُسمَع ليس بالصرخة بل بالنسيم ليس بالتهديد بل بالطمأنينة…
التجلّط الذي يجب أن يُزال من الوعي الديني
سنوات طويلة تراكم فيها “التجلط” فوق وعي الناس من تحزبات تكفير شيوخ منصات فتاوى تُقال على الهواء بلا حياء ميوعة فكرية عند البعض وتشدد عند البعض الآخر.
جاء البرنامج ليقول بان طريق الله لا يحتاج كل هذا طريق الله يبدأ من جمال القرآن من السكينة من المقامات التي تفتح باب القلب بلا استئذان.
وها نحن نرى بأعيننا أن الناس بمجرد أن وجدوا ما افتقدوه تركوووا اللهو وأقبلوا على السكينة وراجعوا أنفسهم وهدأت أرواحهم.
مصر تتصدر المشهد من جديد
مصر هي مدرسة التلاوة الأولى في العالم هي صاحبة المقامات والقلوب والأنفاس والقراء الذين ملأوا الدنيا نورا.
لكن هذا الدور كاد يضيع كاد يُسرق وينزلق إلى قنوات بلا روح حتى جاء «دولة التلاوة» ليعيد مصر إلى مكانها المستحق سيدة الصوت القرآني في الشرق كله.
البرنامج ليس برنامجا إنه موسم روحي إنه ليس موسما ترفيهيا ولا برنامج مسابقات.
ولا “شو إعلامي”إنه موسم من مواسم الرحمة نافذة تُفتح كل أسبوع في انتظارها الملايين جلسة ذكر جماعية على مستوى الوطن سكون يتسلل إلى البيوت قبل النوم.
مستقبل الحالة وما يجب أن يُبنى عليها
هذا النجاح المدوى للبرنامج ليس صدفة ولا يجب أن يُترك للصدفة.
المطلوب الآن برامج تفسيرية بروح صوفية خفيفة تشرح ولا تُرهِب.
مسابقات جديدة لصناعة جيل من القراء.
مدارس فنية للمقامات.
إعادة فتح باب “الفن الإسلامي” بلا عقد ولا خلط.
استثمار كل هذا في تطهير الخطاب الديني من التلوث الوهابي الذي علِق به سنوات طويلة.
«دولة التلاوة» ليس مجرد برنامج.
إنها استرداد للوجدان إنقاذ للذوق ورجوع جماعي إلى الله بلا وسيط ولا أوصياء.
إنها أول دليل على أن الناس مهما أرهقهم التشدد ما زالوا يبحثون عن الجمال وأن القرآن حين يُتلى كما يجب قادر على إسكات كل الضجيج الذي حاول أن يخطفه.
ولعلها بداية بداية تُزال فيها طبقات “التجلط” من وعي الناس ليعود الدين كما بدأ نورا جمالا سكينة وطمأنينة تمشي على الأرض…







