كتب احمد عسله
في لحظة مؤثرة تمتزج فيها المعرفة بالوفاء تحتضن جامعة الأزهر الشريف مناقشة رسالة ماجستير لباحثة انتقلت إلى جوار ربها قبل أن تكمل رحلتها العلمية.
الباحثة أميرة محمد حسن عبدالرحمن المعيدة بقسم العقيدة والفلسفة بكلية البنات الأزهرية بالعاشر من رمضان تُكرّم من قبل جامعتها الأم بإتمام مناقشة رسالتها العلمية رغم رحيلها.
سيُعقد الحدث يوم الثلاثاء الموافق 22 مايو 2025 بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالزقازيق…
تُعد هذه المناقشة هي الثانية من نوعها في تاريخ جامعة الأزهر التي يُناقش فيها عمل علمي لباحث متوفى وهو ما يُعد سابقة نادرة ورسالة قوية تؤكد احترام الأزهر الشريف لعلمائه وباحثيه وحرصه على حفظ حقوقهم الأدبية والعلمية.
عنوان الرسالة التي ستتم مناقشتها هو
“جهود مفكري الإسلام في الرد على الملحدين في الفكر الحديث والمعاصر – عرض ونقد”.
تنتمى الرسالة إلى تخصص العقيدة والفلسفة وتتناول واحدة من أخطر قضايا الفكر في العالم المعاصر.
بذلت الباحثة الراحلة جهدا علميا ضخما في إعداد هذه الرسالة حتى كانت قاب قوسين أو أدنى من مناقشتها قبل وفاتها.
رحلت الباحثة لكن رسالتها بقيت حية تنبض بالفكر وتشهد على إخلاصها للعلم والمعرفة.
تأتي هذه المناقشة تكريما لمسيرتها وتأكيدا على أن الأزهر لا ينسى أبناءه ولا يسمح بأن يُجهض جهد علمي صادق بسبب الموت.
تشكلت لجنة المناقشة والحكم على الرسالة من نخبة من كبار الأساتذة المتخصصين في العقيدة والفلسفة حيث تضم اللجنة كلا من
أ.د إيمان أحمد حسن أستاذ العقيدة والفلسفة المتفرغ بكلية البنات بالعاشر من رمضان (مشرفًا أصليًا) وأ.د فايزة محمد بكري خاطر أستاذ العقيدة والفلسفة المتفرغ بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات الزقازيق (مشرفًا مشاركًا) وأ.د محمد صلاح عبده أستاذ العقيدة والفلسفة المتفرغ بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات الزقازيق (مناقشًا داخليًا) وأ.د عبدالغني الغريب طه، أستاذ العقيدة والفلسفة المتفرغ بكلية أصول الدين بنين الزقازيق (مناقشًا خارجيًا).
أوضح الأستاذ الدكتور محمد صلاح عبده أن المناقشة تُعد مناقشة شرفية هدفها الرئيس هو إثبات الملكية الفكرية للرسالة كما تهدف المناقشة أيضا إلى صون الجهد العلمي للباحثة الراحلة وتيسير اطلاع القراء على عملها القيم.
أضاف أن هذا الموقف يعكس نبل المؤسسة الأزهرية وحرصها على رد الجميل لعلمائها أحياء وأمواتا.
أشار إلى أن الرسالة تتميز بموضوعها العميق وتناولها النقدي الجريء لأبرز الشبهات الفكرية المعاصرة حيث قامت الباحثة برصد وتحليل جهود أعلام الفكر الإسلامي في تفنيد الإلحاد الحديث.
كما ناقشت بشفافية التحديات التي واجهها هؤلاء المفكرون ومدى تأثيرهم في الفكر الإسلامي الحديث.
تُعد هذه الرسالة من الأعمال العلمية التي تملك رصيدا من الأصالة والرصانة والتحليل المنهجي وهي إضافة حقيقية للمكتبة الأزهرية ومراجع العقيدة الإسلامية.
من جانبها أعربت أسرة الباحثة عن امتنانها العميق لجامعة الأزهر التي لم تتخلَّ عن ابنتها بعد وفاتها وقالت والدتها: “ابنتي كانت تحلم بهذه اللحظة.. وكانت تُذاكر وتتعب وتكتب رغم كل الظروف.. واليوم الأزهر يُكمل حلمها”.
أضافت “نشكر كل أستاذ دعمها وكل من وقف بجانبها وكل من آمن بحقها في هذا التتويج”.
الحدث لم يمر مرور الكرام على الأوساط الأكاديمية والطلابية حيث أثار تفاعلًا واسعًا على مواقع التواصل وأشاد كثيرون بروح الوفاء التي أظهرها الأزهر تجاه الباحثة مؤكدين أن هذا الموقف يُجسّد “الأزهر كما نعرفه: وفاءً وعدلًا ورحمة”.
كما عبّر زميلاتها وزملاؤها من طلاب وطالبات الدراسات العليا عن شعورهم بالفخر والانتماء لهذه المؤسسة العريقة.
قالت أحدى زميلاتها “أميرة كانت قدوة في العلم.. واستكمال رسالتها هو رسالة لنا نحن الأحياء أن نُكمل الطريق مهما كان صعبًا”.
كما طالب عدد من الطلاب والطالبات بتوثيق هذا الحدث كنموذج يُدرَّس في احترام العلم وتقدير أصحابه.
قالت د. إيمان أحمد حسن المشرفة الأصلية على الرسالة “لم تكن أميرة باحثة فقط بل كانت إنسانة بكل ما تحمله الكلمة من معنى”.
أضافت رأيت فيها الإصرار والرغبة في خدمة الإسلام بعقلها وقلمها وهي جديرة بهذا التكريم”.
تُعَدّ هذه المناقشة استثناءً علميا وإنسانيا يجب التوقف أمامه إذ تُبرهن على أن العلم لا يموت وأن الجهد الصادق لا يضيع حتى لو سبق صاحبه إلى دار الحق وهي أيضا دعوة لفتح آفاق جديدة في تعامل الجامعات مع الحالات المشابهة فالموت لا ينبغي أن يكون حا ا بين الإنسان وإنجازاته خصوصا إذا كانت مكتملة وقابلة للنشر.
كما أن في هذا الموقف رسالة ضمنية للمجتمع وهو أن التكريم الحقيقي يبدأ من احترام الإنسان بعد رحيله خاصة إن كان عالمًا.
إن ما فعله الأزهر الشريف يُعيد تعريف معنى “الانتماء المؤسسي” ويُعلي من شأن “العدالة الأكاديمية”كما يعكس عمق الرؤية لدى قياداته الذين فهموا أن الوفاء للعلم لا يرتبط بالحياة أو الموت.
أعلن مسؤولو الكلية أنهم سيطبعون الرسالة ويوزعونها ضمن منشورات الجامعة تكريمًا لصاحبتها كما تُدرس الكلية تخصيص جائزة سنوية باسم “أميرة محمد حسن” تُمنح لأفضل رسالة في العقيدة والفلسفةوهو اقتراح نال ترحيبا واسعا من أعضاء هيئة التدريس والطلاب.
قالت إحدى عضوات لجنة المناقشة”هذه الرسالة ليست فقط بحثا أكاديميا بل قصة إنسانية ستُلهِم أجيالًا”ويبقى المشهد الأجمل هو أن العلم يكرّم من حمله.. حتى وإن رحل الجسد فالفكر لا يموت.
من قاعة المناقشة سيعلو صوت الوفاء ليقول للعالم في الأزهر العلماء لا يُنسون حتى وإن غيّبهم الموت.
رحم الله الباحثة أميرة محمد حسن عبدالرحمن وأسكنها فسيح جناته، وجعل ما قدمته في ميزان حسناتها وحضوركم لهذه المناقشة لهو شهادة حياة لعلمها وتكريم لروحها ودعوة لاستمرار النور الذي تركته.
يُنتظر أن يحضر المناقشة عدد من الأساتذة والباحثين والمهتمين بمجال الفلسفة الإسلامية الى جانب زميلات الفقيدة من الكلية.
كما ستشهد المناقشة حضورا لافتا من الطالبات وأعضاء هيئة التدريس ممن تأثروا بمسيرة الباحثة وإنسانيتها.
تُجرى الاستعدادات داخل الكلية لتوفير أجواء علمية وإنسانية تليق بهذا الحدث الاستثنائي.
قالت إدارة الكلية في بيان مقتضب “نحن لا نناقش فقط رسالة علمية بل نُحيي سيرة باحثة صادقة تركت أثرا وبصمة”.
أكدت الإدارة أن “حق أميرة في مناقشة رسالتها لا يسقط بوفاتها كما أن دورنا هو الوفاء بهذا الحق”.
هذا التوجه النبيل من الأزهر يُعيد تسليط الضوء على ضرورة تطوير لائحة الدراسات العليا في الجامعات المصرية بحيث يتم تخصيص بند صريح يُجيز مناقشة الرسائل المكتملة لباحثين رحلوا حفاظا على إنتاجهم العلمي كما يُعد هذا الحدث رسالة قوية ضد ثقافة الإهمال التي تطال أحيانا حقوق الباحثين المتوفين فالعلم لا يُقاس بعمر صاحبه بل بمدى ما يقدمه من فكر نافع.
في حالة الباحثة أميرة كانت الرسالة شبه مكتملة ومراجعة من المشرفين وجاهزة للعرض والمناقشة لذا فإن هذا الموقف من الجامعة لم يكن عاطفيا فقط بل مهنيًا أيضا فقد اتخذ القرار بعد مراجعة علمية دقيقة للتأكد من أهلية الرسالة وجدارتها بالنقاش.
تُعد هذه الخطوة كذلك فتحا مهما في مجال الأخلاقيات الأكاديمية ودرسا في الإنصاف لا بد أن يُدرس فكم من باحثين وباحثات تعبوا وسهروا ثم غيّبهم الموت قبل أن يكتمل الحصاد وكم من مؤسسات تجاهلت هذا النوع من الحقوق بذريعة أن “صاحب الرسالة مات وانتهى الأمر”؟
أما الأزهر فكان عند حسن الظن وأثبت أنه ليس مجرد مؤسسة تعليمية بل كيان يحمل رسالة إنسانية عظيمة.
أكدت لجنة المناقشة أن الرسالة سيتم تقييمها تقييما علميا صرفا بعيدًا عن أي مجاملة أو تأثير عاطفي وأوضحت أن ما ستقوم به اللجنة هو تسجيل الحقوق الفكرية للباحثة وتقديم تقرير علمي يُرفق بالسجلات وفي حال الموافقة على محتوى الرسالة، ستُودع نسخة منها في مكتبات الجامعة، وتُتاح للاطلاع العام.
من المتوقع أن تُحدث هذه الرسالة صدى واسعًا داخل الأوساط العلمية، نظرًا لقيمتها الموضوعية وظروف تقديمها الفريدة..
كانت الباحثة الراحلة أميرة محمد حسن عبد الرحمن من الطالبات المتفوقات طوال مسيرتها الجامعية وتميزت بحضورها الهادئ وأدبها الجم.
وصفها أساتذتها بأنها “عقلٌ هادئ، ولسانٌ لا يعرف إلا الاحترام، وقلبٌ امتلأ حبًا للعلم”.
التحقت بقسم العقيدة والفلسفة بكلية البنات الأزهرية بالعاشر من رمضان وكان واضحا منذ البداية شغفها بالفكر النقدي والدراسات العقدية.
اختارت موضوع رسالتها بعناية بالغة لما له من أهمية قصوى في مواجهة الإلحاد والتيارات الفكرية المعاصرة.
كتبت الراحلة في مقدمة رسالتها “أحمل هذا العمل كأمانة وأتمنى أن يكون لبنة في جدار الدفاع عن عقيدة الإسلام”.
كانت تعتقد أن كل فكرة تُكتب هي سهم في معركة الوعي وأن الدفاع عن الدين لا يقتصر على المنابر بل يكون كذلك عبر البحث والنقد.
حرصت أثناء إعداد رسالتها على الجمع بين المصادر التراثية الأصيلة والردود الفكرية الحديثة، لتقديم صورة متكاملة ومتزنة.
ومن المواقف الإنسانية التي روتها أحدى زميلاتها أنها كانت تصر على الحضور للجامعة رغم متاعبها الصحية في الشهور الأخيرة وكانت تقول دومًا “لن أترك رسالتي ناقصة.. هذا ديني قبل أن يكون بحثا أكاديميا”.
وبعد وفاتها بكتها زميلاتها بحرقة وأجمعن على أنها كانت أكثر من مجرد باحثة بل أختا ومُلهمة.
أحد أساتذتها قال “فقدنا أميرة الجسد لكن أميرة الفكرة باقية.. وكأنها معنا الآن تقف بجوار الرسالة”..
القرار الذي اتخذته الجامعة بمناقشة الرسالة أعاد الروح لزميلاتها وبث الأمل في نفوس الباحثين بأن العلم لا يموت بموت صاحبه.
كما شكّل هذا الحدث نوعا من “الوفاء المؤسسي”وهو ما تفتقده الكثير من الجامعات في زمن البيروقراطية والجمود.
يطالب كثير من المتابعين الآن بتوثيق هذه الواقعة في فيلم وثائقي أو كتاب لتكون قصة “أميرة” مصدر إلهام.
كما ان هناك دعوات كذلك لإطلاق اسم الباحثة على قاعة أو جناح داخل كليتها تخليدا لذكراها الطيبة.
من جهة أخرى يدعو البعض لإطلاق مبادرة باسم “رسائل لا تموت” لرصد رسائل الباحثين المتوفين وتسهيل نشرها ومناقشتها.
الحدث كذلك فتح الباب أمام حوار مجتمعي واسع حول العلاقة بين العلم والموت وكيف يستمر الأثر بعد الرحيل.
لفت كثيرون إلى أن هذا الحدث يعكس جوهر رسالة الأزهر الشريف الذي لا ينفصل فيه الدين عن العلم ولا الإنسان عن المبدأ.
هذه المناقشة الشرفية لم تكن تكريما للفقيدة فقط بل تكريما لفكرة “الصدق في طلب العلم” وهي أسمى ما يمكن أن يُحتفى به.
وفي ختام المشهد يظل اسم أميرة محفورا في ذاكرة المؤسسة لا كباحثة متوفاة بل كحياةٍ أكملت رسالتها… حتى بعد الموت.
