منذ اندلاع حرب الإبادة في غزة دخلت إسرائيل مرحلة جديدة كليا من تاريخها مرحلة يمكن تسميتها ـ بلا مبالغة ـ زمن انكشاف الأسطورة فقد بُني الكيان الصهيوني على ثلاث ركائز دعائية ضخمة “المحرقة” “المظلومية التاريخية” و”القوة التي لا تُقهر”. وخلال أقل من عامين انهارت الركائز الثلاث،واحدة تلو الأخرى في مشهد يُعيد رسم مستقبل المنطقة ويضع إسرائيل نفسها على حافة هاوية لم يعرفها اليهود من قبل.
#أولا سقوط ورقة التوت المسماة «المحرقة»
لسبعة عقود متصلة استنزفت إسرائيل العالم الغربي بترديد رواية المحرقة (الهولوكوست) باعتبارها “القضية الأم” وأداة ابتزاز للضمائر والسياسات. لكن صور أشلاء الأطفال في غزة وأجساد الرضع الذين يموتون جوعا هزّت الضمير العالمي على نحو لم يحدث من قبل. العالم بات يسأل بوضوح كيف لضحايا الإبادة أن يتحولوا إلى جزارين يمارسون إبادة أعنف وأبشع؟!
#ثانيا المظلومية المقلوبة
لم يعد من السهل اليوم تمرير سيف “معاداة السامية” على كل من يعارض سياسات إسرائيل. ملايين البشر في الجامعات وفي الشوارع الأوروبية والأمريكية خرجوا يهتفون ضد إسرائيل غير عابئين بهذا المصطلح المطاطي. لأول مرة صار الاتهام بمعاداة السامية سلاحا خاسرا لأنه ببساطة يُستخدم للتغطية على جرائم موثقة بالصوت والصورة.
#ثالثا سقوط أسطورة الجيش الذي لا يُهزم
جيش إسرائيل الذي صدّعوا العالم بتفوقه التكنولوجي والاستخباراتي فشل ـ حتى اللحظة ـ في حسم معركة أمام تنظيم مسلح محاصر في قطاع صغير رغم ثمانية تغييرات في الخطط العسكرية ورغم غطاء أمريكي مفتوح بالسلاح والمال. فكيف لهذا الجيش أن يحلم بالتمدد “من النيل إلى الفرات”وهو غير قادر على السيطرة على بضعة أحياء في غزة؟!
#رابعا من «إسرائيل الكبرى» إلى «إسرائيل المنبوذة»
مشروع نتنياهو لإحياء حلم “إسرائيل الكبرى” لم يحقق سوى نتيجة واحدة تكريس صورة “إسرائيل المنبوذة”. سفن تُمنع من الرسو تظاهرات تُغلق الشوارع أمام بعثاتها الدبلوماسية مقاطعات اقتصادية وثقافية تتصاعد. العالم يلفظ إسرائيل ويصنفها كدولة أبارتهايد أشد بشاعة من جنوب أفريقيا في زمن الفصل العنصري.
#خامسا الطوفان المضاد
التقارير الغربية نفسها باتت تنطق بالحقيقة. وكالة حقوق الإنسان بالاتحاد الأوروبي رابطة مكافحة التشهير في أمريكا منظمات بحثية مرموقة كلها تؤكد تصاعد غير مسبوق في موجات الكراهية ضد إسرائيل واليهود. لم يعد الأمر مجرد “انتقادات سياسية”،بل تحوّل إلى أزمة وجودية لليهود في الشتات. ملايين منهم يخفون هويتهم يخشون الخروج بزيهم التقليدي يتجنبون أماكن عبادتهم. إنها حالة رعب معكوسة فمن كانوا يزرعون الخوف في قلوب الآخرين باتوا هم المذعورون.
#سادسا أخطر من الحرب العسكرية… الحرب الأخلاقية
المعادلة التي لم يفهمها نتنياهو أن الحروب لا تُكسب فقط بالدبابات والطائرات. هناك حرب أخلاقية إعلامية ورمزية. إسرائيل خسرت هذه الحرب إلى الأبد. صور غزة صارت أيقونة القرن مثلما كانت صور فيتنام أيقونة ستينيات القرن الماضي. بعد اليوم لن يجرؤ أي سياسي غربي على منح إسرائيل “شيكًا على بياض” دون أن يدفع ثمنًا شعبيًا فادحًا.
#سابعا إسرائيل أمام لحظة الحقيقة
المشروع الصهيوني قام على فرضيتين
١. حماية الغرب لإسرائيل إلى ما لا نهاية.
2. تفوق إسرائيل العسكري المطلق على جيرانها.
اليوم الفرضيتان تتهاويان. الغرب نفسه بات منقسمًا وشعوبه تضغط بقوة ضد دعم إسرائيل. أما التفوق العسكري فانكشف عجزه على أرض الواقع. وعندما تنهار ركائز أي مشروع، فمصيره الانهيار… مهما بدا قويا في الظاهر.
#ثامنا نحو حروب الفناء
حين يصر نتنياهو على استدعاء “الوعد الإلهي” لتبرير حرب التوسع فهو لا يُدرك أنه يفتح أبواب حروب فناء شاملة. هذه الحروب لن تعني فقط مواجهة مع الفلسطينيين أو مع العرب بل مع الضمير الإنساني كله. عند تلك اللحظة لن يبقى لإسرائيل مكان لا كبرى ولا صغرى.
#الخلاصة
إسرائيل اليوم ليست فقط أمام أزمة سياسية أو عسكرية بل أمام أزمة وجودية. هي دولة فقدت شرعيتها الأخلاقية وتحوّلت من “رمز الضحية” إلى “رمز الجلاد”. من دولة مدعومة غربيا إلى دولة منبوذة عالميا. ومن مشروع يحلم بالتوسع إلى كيان يبحث ـ يائسا ـ عن كيفية النجاة من لعنة الفناء.
إنها اللحظة التي ينهار فيها المشروع من داخله لا بفعل الجيوش فقط بل بفعل الكراهية الشعبية العالمية، والانكشاف الأخلاقي الذي لا رجعة فيه…