في كل مرة تُستدعى فيها المليشيات إلى المشهد السياسي أو العسكري تكون النتيجة واحدة وطن ممزق وجيش مُهان وشعب يُساق إلى المقابر.
وما يحدث اليوم في السودان ليس إلا تكرارا مأساويًا لدروس تجاهلها الجميع.
من المؤلم أن ترى السودان ذلك البلد الشقيق الذي كان يُلقب بسلة غذاء إفريقيا يتحول إلى مسرح لدماء وحرائق واغتصاب ونهب.
الألم لا ينبع فقط من حجم الجريمة بل من هوية القاتل. فالفاعل ليس غازيا أجنبيا بل مليشيا خرجت من رحم النظام نفسه صُنعت بيد الحاكم لتكون ذراعه التي يبطش بها خصومه فصارت الذراع خنجرا في قلب الوطن.
من البشير إلى حميدتي صُنع الوحش ثم أفلت
بدأت القصة حين قرر عمر البشير الله يلعنه في سنواته الأخيرة أن يؤمِّن حكمه بوسيلة غير مؤسسات الدولة الرسمية.
أنشأ “قوات الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو الشهير بـ”حميدتي”الرجل القادم من عمق الصحراء الغربية بلا تعليم عسكري ولا خلفية استراتيجية لكن بثروة طائلة من تجارة الذهب والسلاح والبشر.
حوّله البشير إلى “لواء” اى والله حصل وسمح له بتجنيد الآلاف خارج هيكل الجيش النظامي ظنا منه أنه خلق لنفسه جدارا واقيا من أي انقلاب عسكري لكن الجدار انهار على الجميع.
لم تمضِ سنوات حتى أصبحت المليشيا دولة داخل الدولة تملك السلاح والذهب والإعلام والعلاقات الخارجية بل وتفاوض باسم السودان في بعض الملفات.
وللأسف حين سقط البشير لم يسقط “حميدتي” بل تمدد وبدأت مرحلة جديدة من التوحش المنظم حيث صار الدم وسيلة تفاوض والقتل سياسةً يومية.
دارفور الجرح الذي لم يلتئم
في دارفور تختصر المأساة السودانية كلها.
المنطقة التي طالما كانت غنية بالثقافة والموارد تحولت إلى محرقة بشرية بسبب خليط سام من الصراعات القبلية والتهميش الاقتصادي وتدخلات المليشيات.
كل مجزرة في دارفور تُعيد للأذهان سنوات الجنجويد حين كان القتل على الهوية والاغتصاب أداة حرب والحرق الجماعي عقابا جماعيا.
وها نحن اليوم نرى المشهد نفسه لكن تحت مسمى “الدعم السريع” بدلًا من الجنجويد.
دارفور اليوم ليست فقط أزمة إنسانية بل اختبار لإنسانيتنا نحن فكل طفل يُذبح هناك هو رسالة لنا جميعا بأن السكوت عن الجريمة جريمة أخرى.
ومصر — التي تعرف جيدا ثمن الفوضى — لا يمكنها أن ترى جارتها الجنوبية تُغتال بهذه الطريقة دون أن تشعر بأن النار على حدودها.
المليشيات سرطان الشرق الأوسط
ليست السودان وحدها من دفعت ثمن هذه الفكرة القاتلة فكرة الجيش الموازي أو المليشيا الحامية للنظام.
في لبنان خلقت الطائفية حزبا مسلحا فوق الدولة فصار القرار السيادي مقيدا.
في سوريا ظن النظام أن بإمكانه أن يدير صراعا عبر ميليشيات “الدفاع الوطني” فاشتعلت الأرض وامتدت يد التنظيمات الإرهابية وتحولت الثورة إلى فوضى.
وفي العراق أنشئت “الحشد الشعبي” بدعوى حماية الوطن فصار الانقسام واقعا لا يُمحى.
وفي ليبيا كل فصيل حمل السلاح باسم “الشرعية” فضاعت الشرعية نفسها.
حتى في مصر نتذكر درسا قديما حين استعان السادات بجماعات الإسلام السياسي لمواجهة اليسار فانقلب السحر على الساحر وكانت رصاصاتهم هي التي أنهت حياته.
إذن القاعدة التاريخية ثابتة كل من يستعين بمليشيا ليحمي عرشه يوقّع بيده شهادة وفاة وطنه.
البُعد الأخلاقي والسياسي
الاستعانة بالمليشيات ليست فقط خطأً سياسيا بل جريمة أخلاقية لأنها تعني ببساطة أن الحاكم فقد ثقته في مؤسسات دولته واستبدل القانون بالولاء الشخصي والجيش الوطني بعصابة تُقسم على الطاعة العمياء ومن هنا يبدأ الانهيار فحين تصبح البندقية وسيلة صعود اجتماعي تسقط القيم ويتحول الوطن إلى غابةٍ فيها من يملك السلاح يحكم ومن يملك الضمير يُقتل.
وما يحدث في السودان اليوم ليس مجرد حرب أهلية بل انهيار لنموذج الدولة نفسها.
الحدود تتفكك والجيش الوطني يُستنزف والمجتمع ينقسم بينما العالم يتفرج لأن النار هناك “ليست في بيته بعد”.
مصر والدور المنتظر
السودان ليس بعيدا عن مصر لا جغرافيا ولا تاريخيا وكل خبير أمن قومي يدرك أن سقوط السودان في فوضى كاملة يعني فتح جبهة جديدة على حدود مصر الجنوبية لا تقل خطرا عن أي تهديد خارجي لذلك لا يمكن لمصر أن تكون متفرجة صامتة بل لا بد أن تكون صانعة لتوازنٍ جديد في المنطقة
داعمة لوحدة الجيش السوداني ورافضة لأي مشروع يعيد إنتاج المليشيات أو يقنن وجودها فحماية السودان هي في جوهرها حماية للأمن القومي المصري والعربي.
الدرس الأخير لا دولة مع سلاحين
من حق كل دولة أن تتعدد فيها الأحزاب والآراء والاتجاهات لكن لا يمكن أن تتعدد فيها البنادق فالسلاح الواحد هو عنوان السيادة الواحدة والجيش الواحد هو خط الدفاع الأخير عن هوية الأمة.
من يخلق كيانا موازيا للجيش يظن أنه يخلق حماية إضافية لكن ما يخلقه في الحقيقة هو أفعى ذات رأسين سرعان ما تلدغ الجميع.
وها هو السودان يدفع الثمن ملايين النازحين ومدن محروقة وأطفال بلا وطن.
كل ذلك لأن الحاكم يوما استعان بميليشيا بدلا من أن يقوّي جيشه وظن أن الولاء الشخصي أقوى من العقيدة العسكرية وأن السلاح يمكن أن يُشترى بالذهب لا بالانتماء.
ياسادة حين تتحول البنادق من حماية الحدود إلى تصفية الحسابات وحين يُمنح الرُّتَب من لا يستحقها وحين تُباع الدولة في مزاد المصالح فلا تنتظروا وطنا يعيش طويلا.
السودان اليوم يصرخ لا لطلب العون فقط
بل ليقول لنا جميعا إيّاكم والمليشيات فإنها لا تحمي أحدا بل تبتلع الجميع.
اللهم ارحم ضحايا دارفور وانصر المظلومين في كل أرض وأعد إلى السودان وشعبه الأمن والوحدة والكرامة.








