في مشهد عبثي لا يمكن تصنيفه ضمن أي من مدارس السياسة أو حتى الفنون تابع العالم خلال أيام قليلة ما يشبه عرضا مسرحيا هزليا بطلُه رئيس أمريكي وجمهوره رؤساء وأمراء أعراب وديكورُه قصور فاخرة ووجوه متصنعة وأموال تُنثر كما تُنثر النفايات.
لقد كانت زيارة ترمب إلى ممالك الخليج وتحديدا “نجد وما حولها” عرضا فاضحا لانبطاح سياسي واقتصادي وأخلاقي مكتمل الأركان شاهدنا فيها ما لا يمكن لعاقل أن يصدّقه أمراء وملوك يتراقصون على نغمات الطاعة المطلقة يُقدمون ثروات شعوبهم قرابين لرضا “الكبير الأمريكي” ويستجدون الحماية والوصاية كما يستجدي الضعيف من القوي ضوءا في ظلام الخوف.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يكشف فيها هؤلاء عن وجههم الحقيقي لكنها كانت أوضح المرات وأكثرها ابتذالا والعار أن الكاميرات لم تكن خفية بل كانت الكاميرات الرسمية واللقطات الممنتجة والابتسامات المصطنعة تنقل الحدث لحظة بلحظة كأنها تباهي أمام العالم بحجم ما وصلت إليه المنطقة من هوان وانسلاخ عن أبسط مبادئ الكرامة.
من أين جاء هذا الانبطاح؟
الإجابة تكمن في التاريخ…حين نعود إلى أرض نجد نجد أصل الحكاية من هناك خرج مسيلمة الكذاب وهناك ادّعت سجاح النبوة وهناك ارتدت قبائل عن الإسلام بعد وفاة سيدنا النبي وقتلوا من حفظة القرآن ما يزيد على سبعين من خيرة الصحابة.
تلك الأرض كانت ولا تزال منبعا للفتن كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين قال “يخرج منها قرن الشيطان ومنها تكون الزلازل والفتن.” وهو حديث نبوي يتجاوز التفسير الجغرافي ليدخل في عمق الواقع السياسي والفكري الذي نعيشه اليوم.
البقرة الحلوب… عنوان المرحلة
ترمب لم يخفِ شيئا… وصف دول الخليج بـ”البقرة الحلوب” يحلبها حين يشاء فإذا جفّ ضرعها ذبحها ومع ذلك صفقوا له ومنحوه المليارات واحتفوا به كأنه “مخلّص” جاء ليعيد لهم المجد… لكن أي مجد؟!
لقد سقط القناع وانكشفت الحقيقة.. دول تملك الثروات وتفتقر إلى السيادة حكومات ترفع رايات الإسلام وتغلق أبوابها أمام الفلسطيني الجريح وتفتح قواعدها للطائرات الأمريكية والإسرائيلية وتدّعي الحياد بينما تقتات على دماء المقهورين.
ماذا تبقّى؟
تبقّى أن نقرأ التاريخ جيدا لا لنحقد على أحد بل لنعرف من أين تأتي الطعنات.. تبقّى أن نميّز بين من يُطبّع ومن يقاوم بين من يرقص للعدو ومن يدفع ثمن الكرامة..تبقّى أن نعرف أن المعركة ليست فقط على أرض فلسطين بل في القلوب والعقول وفي قصور نجد وما حولها.
هذه ليست أزمة عابرة بل عنوان لمرحلة.. مرحلة “الانبطاح الكامل” التي لا ينجو منها إلا من تمسك بالثوابت ورفض أن يكون بوقا أو ذيلا في بلاط راعي البقر…


