لم تكن تحب الضجيج.
كانت تقول إن الحياة الحقيقية تُحكى بالعيون لا بالكلمات، وإن الوداع لا يجب أن يُثقل بصراخ البكاء، بل يكفي أن يكون نظرة أخيرة، صامتة، تشبه البحر قبل العاصفة.
أحببتها بصمت، تمامًا كما كانت تعيش.
هي التي دخلت حياتي على أطراف الحنين، دون أن تطرق باب القلب، وكأنها تعرف مسبقًا أن لها فيه مقعدًا محفوظًا، لا يجرؤ أحد غيرها على الجلوس فيه.
كانت تضحك قليلاً، وتحزن كثيرًا، وتمضي في الأيام كأنها عابرة طريق تعرف أنها لن تبقى طويلًا.
كنت أظن أنني سأملك الوقت، وأن الأيام القادمة ستحمل مزيدًا من التفاصيل الصغيرة، من الخلافات البسيطة، من الرسائل الليلية، ومن صوتها وهي تقول لي: “اطمئن.. أنا هنا.”
لكنها رحلت.
هكذا، دون مقدمات، دون مرض يُمهّد، أو تعبٍ يُنذر، أو حتى خلاف يُبرر الغياب.
غابت كأنها لم تكن.. لكنها كانت كل شيء.
جاءني خبر رحيلها كصفعة باردة في صباح لم أكن أتوقع فيه سوى صوتها.
ظننتها مزحة سخيفة، أو خلطًا في الأسماء، أو كابوسًا يمكن أن أستفيق منه حين أفتح عيني وأجد رسالة منها تخبرني: “أنا بخير، لا تقلق.”
لكنه لم يكن حلمًا.
ورحلت دون وداع.
تركت فنجان قهوتها على طاولتنا الصغيرة، وكتابًا لم تكمله، ورسالة لم ترسلها، وربما حُبًا لم تنهه.
أجلس الآن كل ليلة على أطراف ذكراها، أفتّش عن صوتها بين تفاصيل الغياب، أتحسّس بقايا دفئها في برد الوحدة، وأسألها بصمت:
“لماذا غادرتِ دون أن تخبريني أن النهاية اقتربت؟ ألم تقولي لي ذات يوم أنكِ تكرهين المفاجآت؟”
ورغم الرحيل.. لا أزال أحبها.
أحبها كما كانت، وكما غابت، وكما بقيت بداخلي حاضرةً في كل شيء.
رحلت بلا وداع، وبقيتُ أنا في العاصفة، أحاول النجاة من فقدٍ لم يترك لي سوى الذكرى.