يقف التعليم بوصفه مشروعًا حضاريًا متكاملًا يستهدف صياغة الإنسان القادر على حمل مسؤوليات الدولة وتطورها، وأن کل الدول التي تقدمت وأحدثت طفرات هائلة في النمو الاقتصادي، قد تقدمت من بوابة التعليم، ولذا تضع الدول المتقدمة التعليم في أولوية برامجها وسياساتها.
حيث أن بناء العقول يشكّل الأساس الذي تُبنى عليه الصناعة والتكنولوجيا والاقتصاد، عقل منظم، عملي، واسع الأفق. وذلك ببناء منظومة تعليمية متوافقة مع توجهات الدولة، والانفتاح على النظم التعليمية العالمية المتطورة وإتباع المناهج الدولية الرائدة، والمتوافقة مع التطورات التكنولوجية العلمية والمعلوماتية، وانطلاقًا من إيمان واضح بأن النهضة لا يمكن أن تقوم إلا على قاعدة بشرية واسعة، تمتلك الحد الأدنى من المهارات الحديثة والوعي الوطني والمعرفة العلمية، عبر تعليمٌ يوفّر الفرصة للجميع، ورؤية تستشرف المستقبل، وترى في المتعلم رصيدًا وطنيًا ينبغي تنميته ليصبح عنصرًا فاعلًا في مشروع الدولة التنموي.
أن الاستثمار في المعرفة هو الطريق الآمن نحو المستقبل، وتأسيس ثقافة جديدة تربط التعليم بالتقدم الاقتصادي والعلمي، وتضع الإنسان في قلب التحول الوطني. لقد تحوّل التعليم تدريجيًا إلى ركيزة استراتيجية تُصاغ داخلها السمات الذهنية والقيمية للمواطن المتعلم القادر على العمل المنتج والإبتكار المنهجي ضمن إطار وطني يتحرك بخطى ثابتة نحو أهداف بعيدة المدى.
كما أن الاستثمار المكثف في التعليم وتنمية رأس المال البشري، لايُنظر إليه كنفقات، بل كاستثمار استراتيجي للمستقبل، وهي الأساس لبناء مجتمع متقدم وقادر على تلبية متطلبات الأجيال القادمة، وهي سبيل الاقتصاد لنمو مزدهر وتنافسي مستقر ومستدام، لاسيما في ظل قلة الموارد الطبيعية، ولتعزيز القدرة التنافسية الوطنية اللازمة لجذب الاستثمارات، وتعزيز سلاسل التوريد، وبناء اقتصاد قائم على المعرفة، حيث أن تهافت كبرى الشركات العالمية على التصنيع بالدول النامية لايقتصر على رخص الأيدي العاملة فقط بقدر توافر الأيدي العاملة الماهرة.
حيث يجب أن تركز السياسات التعليمية على مواءمة مخرجات التعليم العالي والتقني مع احتياجات الاقتصاد والاحتياجات الحقيقية والمتغيرة لسوق العمل، وللمساهمة في توفير قوة عاملة ذات مهارات عالية، تجعل الاقتصاد أكثر جاذبية للاستثمارات الأجنبية وترفع قدرته التنافسية، وتسعى إلى تطوير أساليب التدريس والمناهج الدراسية التطوير الشامل، لاستغلال الفرص المتاحة بشكل فعّال، وتجاوز التحديات الكبرى، وتعزيز التنوع والشمول فيها، وتحسين جودة التعليم، ودمج التكنولوجيا في العملية التعليمية، والجمع بين التكنولوجيا والتفكير الإبداعي كأساس لتعلم الطلاب، لتحقيق التعليم والتنمية الشاملة للطلاب، وتوفير بيئة تعليمية محسنة وأكثر فعالية، وتحقيق رؤية مصر 2030.
وذلك من خلال اتباع استراتيجية تقوم على عدة محاور وهى: الاهتمام بالتعليم والبحث العلمي والابتكار التطبيقي والنمو والتحديث والتصنيع وتحقيق رؤية الدولة، إضافة إلى المحور الاجتماعى. لخلق نموذج تعليمي جديد يرتكز على أسس واضحة، وباعتبار هذه المحاور أوليات اقتصادية وطنية، وأساس التطور المستمر للبلاد، لتصبح المؤسسات التعليمية المختلفة مراكز فاعلة لتطوير الصناعات المتقدمة، لاسيما في مجالات الذكاء الاصطناعي والاتصالات والطاقة والروبوتات والتكنولوجيا الرقمية والأمن السيبراني وأشباه الموصلات والرقائق الإليكترونية.
حيث تُظهر التغييرات الجديدة في النظام العالمي للتعليم تحولاً نحو التعليم المرن والمبتكر والمتميز متكافئ الفرص للطلاب، وتطوير محتوى تعليمي يتماشى مع التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية السريعة، لمواكبة التحول العالمي إلى اقتصاد المعرفة، وتشجيع التفكير النقدي والابتكاري، وزرع قيم العمل، وتطوير المهارات الشخصية والاجتماعية والإبداعية والحياتية، ومهارات حل المشكلات والتواصل والتفكير التحليلي وتطوير روح المبادرة وريادة الأعمال، والعمل الجماعي والتفاعل الاجتماعي، وتقديم أفكارهم والبحث عن حلول للتحديات الاجتماعية والاقتصادية، واستخدام التطبيقات التفاعلية والواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي لجعل عملية التعلم أكثر فعالية وجاذبية، وضمان المشاركة الفعالة في الفصل الدراسي، وتوفير فرص للمسابقات وورش العمل لتشجيع الإبداع والموهبة، بهدف تعزيز التميز وإتاحة الفرص للجميع لاختيار المسار التعليمي الذي يناسب قدراتهم واهتماماتهم، ولإعداد طلاب يتمتعون بشخصية قوية ويستطيعون التعامل مع تحديات الحياة ولديهم رؤية ويمكنهم المساهمة في تنمية المجتمع، وليكونوا محركاً رئيسياً للنمو الاقتصادي وأساساً للقدرة الوطنية وللعمل على دعم الصناعات التكنولوجية الرئيسية وإطلاق العنان للاكتشافات العلمية الجديدة، مع الاهتمام بتعزيز وغرس القيم الوطنية والدينية والولاء والإنتماء من خلال تعليم تاريخ وهوية مصر، وتشجيع الطلاب على خدمة الوطن.
ويعد التعلم العملي والتجريبي حجر الزاوية في منظومة التعليم الجديد باعتباره حلقة أساسية في بناء القاعدة البشرية القادرة على إدارة الصناعة الحديثة، ويشمل ذلك المشاركة في المشاريع العملية والتجارب الواقعية وورش العمل والأنشطة الإيجابية وتطبيق المفاهيم النظرية على مواقف الحياة الواقعية وفهمها في سياق عملي يحفز الطلاب، ويطور فهمًا عميقًا للمواد الدراسية وتطبيق المعرفة في سياقات عملية لتطوير المهارات العملية، والتعلم بالممارسة، وإزالة الفجوة التقليدية بين التعليم وسوق العمل.
هذا ولابد من أن تصبح الجامعات مركزًا لتخطيط المستقبل العلمي والتكنولوجي، ومحركًا مباشرًا للابتكار الوطني، عبر قواعد بحث وتطوير قادرة على إنتاج المعرفة المتقدمة، وتزويد البلاد بالخبرات العلمية المطلوبة في القطاعات الصناعية والتقنية الحسّاسة، وأُعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والجامعة والمختبر، فتصبح ميزانيات الجامعات مرتبطة بمردودها البحثي، وتحوّل الطالب من متلقٍّ للمعرفة إلى عنصر مشارك في منظومة إنتاجها. وهكذا يظهر دور التعليم باعتبارها ذراعًا علمية لمشروع الدولة التنموي، ويزيد من قدرة الدولة على ربط المعرفة بالقوة الاقتصادية والعلمية في آن واحد، وهذا يعزز اهتمام الدولة بالتعليم باعتباره قاطرة التنمية الاقتصادية.
ولتعظيم الاستفادة من منظومة التعليم الحديثة نقترح الآتي:
– توحيد نظام تعليم مركزي وموحد، تضمن فيه الدولة حصول جميع الطلاب على فرص تعليمية متساوية، يخضع لإشراف كامل لسلطة وزارة التربية والتعليم، يتم فيه التركيز على المعارف الأساسية والمعاني الوطنية والدينية، وتعزز روح الانتماء في مواد التعليم المنهجية واللامنهجية لكافة مراحل التعليم، وتسجيل جميع دور رياض الأطفال وما قبل المدرسة لدى الوزارة، وتلتزم بمنهج تعليمي مقرر منها..
– تحول التركيز من التعلم القائم على الإمتحانات فقط إلى تطوير مهارات التفكير النقدي، والعمل الجماعي، وحل المشكلات، والابتكار، وإتخاذ القرار وتقييم مشروعات التخرج لكافة المستويات التعليمية النهائية.
– التوسع في تطوير نظم حديثة ومسارات مرنة ومتنوعة للتعليم والتدريب المهني والتقني لتلبية احتياجات الطلاب المختلفة، عبر تقديم مجموعة واسعة من الخيارات التعليمية، والكليات المتخصصة، التي تلبي اهتماماتهم الفردية، وتربط بين التعليم وإحتياجات الصناعة، لضمان تخريج كوادر مؤهلة لسوق العمل.
– تحسين جودة المعلمين وتدريبهم وتنمية مهاراتهم بشكل مستمر، وتوفير بيئة عمل جاذبة للموهوبين في مجال التدريس، من خلال أطر محددة وبرامج تعلم مهنية لضمان مستوى أعلى من الخبرة لهم.
– استقطاب أفضل الخبراء الدوليين لنقل الخبرة للعمالة المصرية وسد الفجوة في نقص المهارات؛ لرفع القدرة التنافسية الشاملة لرأس المال البشري، ولخدمة التنمية والنهضة الاقتصادية.
أ.د. مجدي الحسيني عليوه
أستاذ العلاج الطبيعي العميد الاسبق لكلية التربية الرياضية
جامعة الزقازيق
باحث في التخطيط للتنمية








