في جامعة الزقازيق لم تكن مجرد مأساة كانت لحظة كشف للضمائر.
فتاة تزهق روحها وناس تنهش أعراض وتيار يركب الموجة.
ماتت البنت… وقبل أن يبرد جسدها اشتعلت صفحات السوشيال.
ما بين مدّعي معرفة ومفتكس يروي سيناريوهات أفلام رخيصة.
فجأة… أصبح الكل قاضي والكل وكيل نيابة والكل خبير نفسي.
نسي الناس أنها بنت… ماتت!
وتفرغوا لـ”من السبب؟” و”إيه اللي حصل؟” و”أكيد العميد وراها”.
ناس محترمة اتشوهت بأقلام عيال بتكتب بوقاحة وقلّة أصل.
والدها الحزين ما لحقش يودعها لكن لقى الناس بتشكك فيه كمان
ما حدش رحم أمها ولا جيرانها ولا زملاءها اللي كانوا بيدّعوا صداقتها.
الأكاذيب بدأت صغيرة… ثم صارت نارا تأكل الأخضر واليابس.
قيل إن العميد شدّها من شعرها!
ثم إن الدكاترة فضحوها!
ثم إن الأمن ضربها!
ثم إن الكلية قفلت الأسانسير في وشها انهم رموها من الدور الخامس الى غير ذلك من الخزعبلات والادعاءات الكاذبة !
يا ناس… ده مش تحقيق ده مسلسل كاذب.
ولما تكلمت النيابة… سكتت اللجان.
بيان النيابة كان قاطعا… لا شبهة جنائية.
ولا إهانة ولا عنف ولا سحل ولا رمى من علو.بل بالعكس… قالوا إن البنت كانت تعاني من حالة نفسية وإنها كانت متابعة طبيا بالفعل.
وإن ما حدث كان انتحارا من تلقاء نفسها.
ساعتها بدأ المدعون يغيّروا سيناريوهاتهم.
رجعوا يقولوا: “طب ماشي انتحرت… بس ليه؟!”
وبدأت حفلة جديدة من جلد الشرفاء
أي مسئول ظهر في الصورة… تم التشكيك فيه.
العميد؟ بلطجي.
الدكاترة؟ وحوش.
الأمن؟ متواطئون.
طلاب الكلية؟ خائفون أو كاذبون.
ليه؟ علشان ترند.
علشان كسب لايكات.
علشان صفحات تسترزق على جثة.
والكارثة… أن ناس كانت عارفة الحقيقة وساكتة.
وناس عارفة إن البنت مريضة نفسيا وشايفة تطوراتها.
بس لما الحكاية ولّعت بقوا “ثوار الكيبورد”.
فين الضمير؟
فين الخوف من ربنا؟
حد بيفكر في قلب أمها؟
حد سأل العميد اللي اتشوه اسمه على الفاضي؟
الراجل اللي أفنى عمره في التعليم؟
إزاي اتحول فجأة من قدوة إلى متهم؟
الإعلام الاصفر لعب دور قذر.
صفحات وهمية عناوين مضروبة ومصادر “مجهولة”.
كله في خدمة الفتنة.
وإشعال النار في النفوس.
طيب مين اللي هيطفي النار بعد ما ولّعوها؟
ومين هيرجع كرامة الناس اللي اتشتمت واتشوهت؟
ومين هيجبر بخاطر أمها اللي بتقرا كل ده ومكسورة؟
الحكاية مش بس بنت ماتت… الحكاية بلد بتنهش بعضها.
لو كل واحد خاف ربنا قبل ما يكتب كنا وفّرنا دموع كتير.
لكن في زمن الترند… الرحمة ماتت.
وفي زمن اللجان… الحقيقة بتتدفن.
واللي يتكلم بالعدل يتشتم ويتقال عنه “مطبلاتي” واللى يقول لهم اهدوا شوية لما النيابة تقول كلمتها يدعوا عليه ويتسافلوا كمان
إحنا بقينا نصدق الفيس أكتر من بيان النيابة!
بقينا نشارك في القتل المعنوي بإيدينا.
مش لازم تقتل علشان تبقى قاتل…كفاية بوست كاذب.
أو تعليق سخيف… أو مشاركة فيها تجني.
البنت دي خلاص ماتت… بس لسه في ناس بتموت كل يوم بالكلام.
عقول طلاب اتلخبطت.
ناس محترمة اتعزلت.
وأهالي بتبكي مرتين مرة على البنت ومرة على اللى بيسمعوه من افتراءات.
يا جماعة… اتقوا الله في الكلام. اتقوا الله في كل حرف.
النيابة قالت كلمتها… فاسكتوا.
كفاية تشكيك… كفاية مهاترات.
مش كل حادث له مؤامرة.
ومش كل شائعة تبقى حقيقة علشان اتكررت.
لو مش قادر تقول كلمة حق… اسكت.
السوشيال مش محكمة.
والتفاعل مش دليل وعي.
والبوستات مش تحقيقات
النيابة هي اللي حققت… مش انتم.
والنتيجة واضحة… لا إدانة لأحد.
اللي حصل… مأساة إنسانية مش جريمة جنائية.
ليه مصرّين تحولوها لمعركة وهمية؟
ليه مصممين تصفّوا حساباتكم على جثة بنت؟
البنت عند رب كريم… وأنتم عند ضمائركم.
لما تموت الحقيقة… بيعيش الكذب ملك.
واللي سكتوا على الكذب شركاء فيه.
واللي نشروا الإشاعات عند ربنا هيتحاسبوا.
مش كفاية تقول “أنا نقلت بس”.
لأن النشر مشاركة في الجُرم.
وحتى لو كنت تقصد الخير…الجهل ما يعفيييش من الذنب.
وأهو النيابة قالت كلمتها… وبالدليل.
وفضحت اللي بيصطادوا في المية العكرة.
بس الغريب… إن بعد البيان قليل اللي اعتذروا.
وقليل اللي مسحوا بوستاتهم الكاذبة.
بل بالعكس… في ناس كملت في الكذب.
“هي النيابة قالت كده علشان تموت الموضوع!”
“أكيد في حاجة مستخبية!”
يعني حتى لما الحقيقة تطلع بردو مش عايزين تصدقوا!
المشكلة مش في الواقعة… المشكلة في العقول.
المشكلة إننا فقدنا الثقة في أي مؤسسة.
وبقينا نثق في بوست مجهول أكتر من بيان رسمي.
الحكاية أكبر من بنت… الحكاية مجتمع بيتآكل.
محتاجين نراجع نفسنا.
محتاجين نعرف إن الكلمة ممكن تقتل أكتر من السلاح.
ومحتاجين نرجع نسمع للنيابة… ونكتم اللجان.
عشان نرجع نعيش في بلد فيها عدل… مش فوضى بوستات.